كانت مظاهر عفو الرسول صلّ الله عليه وسلم عن أعدائه كثيرة وبينة ، فلمَ لا وهو سيد الخلق صاحب الخُلق الحسن الذي بعثه الله تعالى رحمة إلى العالمين ، وقد تجلّت مظاهر عفوه الذي لا مثيل له في فتح مكة المكرمة والذي يُعرف أيضًا باسم “الفتح الأعظم”.
أسباب فتح مكة :
كانت قبيلة قريش قد عقدت معاهدة مع المسلمين في صلح الحديبية ، ولكنها انتهكت هذه الهدنة السلمية فساندت حلفائها من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة في إغارتهم على قبيلة خزاعة والتي كانت حليفة للمسلمين ، وبذلك فقد نقضت قريش عهدها مع المسلمين .
قام الرسول صلّ الله عليه وسلم بإعداد جيش كان قوامه عشرة آلاف محارب من أجل فتح مكة وذلك في يوم 20 رمضان من العام الثامن الهجري ، وقد وصل الجيش إلى مكة وتمكن من دخولها دون قتال ، إلا أنه كانت هناك بعض المحاولات من قِبل بعض رجال قريش للتصدي إلى جيش المسلمين من الجهة التي كان يقودها خالد بن الوليد رضي الله عنه .
كان عكرمة بن أبي جهل هو الذي يقود رجال قريش في مواجهة خالد بن الوليد الذي قاتلهم بجدارة فقتل منهم أثنى عشر رجلًا ، فدبّ الخوف في نفوس الباقين مما جعلهم يفرون هاربين ، وقد قُتل اثنان من المسلمين في هذه المواجهة .
دخول الرسول مكة :
وقد وصل رسول الله صلّ الله عليه وسلم إلى مكة وشعر الناس بالاطمئنان في وجوده ، وكان يطوف بالكعبة ويطعن الأصنام المحيطة بها عن طريق قوس كان يحمله ، كان يفعل ذلك وهو يتلو “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”.
كانت الكعبة تحتوي على صور وتماثيل ، فأمر الرسول بتكسير تلك الأصنام وإخراج الصور من الكعبة ، ثم دخل الرسول إلى البيت وقام بالتكبير في جميع نواحيه ثم أقام الصلاة ، وبعد أن انتهى الرسول من صلاته وذكره في البيت فتح الباب ، فوجد أن المسجد قد امتلأ بصفوف من قريش ينتظرون مصيرهم.
كانت قريش تنتظر ماذا سيفعل بهم رسول الله صلّ الله عليه وسلم بعد أن استطاع فتح مكة المكرمة ، حينها أخذ الرسول بعضادتي الباب ثم قال “لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد – السوطا والعصا-ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها ، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب “.
بعد أن انتهى الرسول صلّ الله عليه وسلم من حديثه هذا إلى قريش ، قام بتلاوة هذه الآية الكريمة ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
كان عثمان بن طلحة هو الذي يحمل مفتاح الكعبة ، وحينما أراد عليّ أن يأخذ المفتاح قام الرسول بدفعه إلى عثمان بعد خروجه من الكعبة قائلًا :”هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء” ، وكان الرسول قد طلبه قبل الهجرة إلى المدينة من عثمان ، حينها أغلظ عثمان في رده فقال له الرسول :” يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي ، أضعه حيث شئت”.
العفو عن كفار قريش :
كانت قريش تجتمع بالقرب من الكعبة ينتظرون المصير الذي سيحدده رسول الله ، فخرج عليهم الرسول قائلًا :”ما تظنون أني فاعل بكم؟” ، فأجابوه :”خيرًا ؛ أخ كريم وابن أخ كريم” ، فقال الرسول :” لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم “.
وهكذا عفا الرسول الكريم عن قريش على الرغم مما قد فعلوه به من أذى واضطهاد ، إلا أن عفوه صلّ الله عليه وسلم كان أسبق من غضبه فهو الرسول الكريم صاحب الأخلاق الحميدة ، وقد نتج عن هذا العفو قيام الكثيرين من أهل مكة باعتناق الإسلام عن حب واقتناع .