قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } {سورة فاطر ، الآية رقم 1} ، فسبحان الله عزوجل الذي يهب لمن يشاء من نعمه وفضله ويغدق على عباده الكثير من خيره ، فلقد أعطى لأبناء نزار بن معد نعمة الذكاء والفراسة فكانوا من أذكى أذكياء العرب في زمانهم .
كان نزار بن معد بن عدنان وهو والدهم الجد الثامن عشر لنبينا محمد صلّ الله عليه وسلم ، وهبه الله أربعة أبناء الأول هو مضر بن نزار وهو الجد السابع عشر لنبينا محمد صلّ الله عليه وسلم ، والابن الثاني هو ربيعة أما الابن الثالث فيدعى إياد و الابن الرابع هو أنمار ، ولما اقترب الأجل من والدهم نزار دعاهم جميعًا وأخبرهم أنه يحس بدنو أجله .
وقال لهم أريد أن أخبركم بتركتكم قبل أن أموت ، ثم أخذ بيد مضر وأدخله قبة حمراء وقال له تلك القبة فهي لك ، وبعدها أخذ بيد ربيعة وقال له : تلك الفرس السوداء والخيمة السوداء هي لك ، ثم أخذ بيد إياد وقال له الشمطاء لك وبعدها أخذ بيد أنمار وقال له مجلس القوم وتلك البدرة فهي لك ، وإن اختلفتم فاذهبوا إلى الأفعى الجرهمي بنجران يفسر لكم كلامي ، والأفعى الجرهمي هذا كان رجلًا يحكم بين العرب .
وبعد فترة توفي والدهم وبالفعل حدث بينهم خلاف ، فقرروا أن يذهبوا إلى الأفعى الجرهمي بنجران باليمن ، وعندما ساروا في طريقهم إلى نجران نظر مضر إلى الأرض فلاحظ وجود نبات مرعي أي أكلت منه الإبل ، وكان هناك نبات بالناحية الأخرى أفضل منه ولكنه غير مرعي فلم تأكل منه الإبل ، فأخبر إخوانه وقال لهم : إن الجمل الذي رعى هنا أعور وتفسيره في ذلك أنه رأى تلك الناحية التي رعى بها ولم يري الأخرى وهي الأفضل ويقصد بذلك الناحية التي لم يرعى بها .
وبينما هم يتحدثون نظر ربيعة إلى الأرض وقال : إن هذا لجمل أزور أي أنه يتحامل على إحدى رجليه وعندما يمشي تظهر أثار رجله السليمة من تلك الأخرى المصابة حيث لا تكون أثارهما متساوية ، وهنا قال أنمار : إن هذا الجمل أبتر أي ليس له ذيل ، وقال إياد : إنه جمل شرود لأنه يأكل من كل منطقة ولا يكملها أبدًا فهو يأكل من هنا وهناك إنه شرود .
ثم ساروا في طريقهم وقابلوا رجلًا يبحث عن بعيره أو جمله ، فسألهم أرأيتم بعيرًا شرد مني ؟ فقال له مضر أهو أعور ؟ فقال الرجل نعم هو أعور ، ثم قال ربيعة أهو أزور ؟ فقال الرجل نعم هو أزور ، وقال أنمار أهو أبتر ؟ فقال الرجل نعم أبتر ، ثم قال له إياد أهو شرود ؟ فقال الرجل نعم : إنه شرود ، فقال لهم الأعرابي أنتم من سرقتم الجمل لقد وصفتم كل ما به من صفات .
وكانوا قد اقتربوا من نجران فأخذهم الأعرابي صاحب الجمل إلى القاضي الحكم ، وهو أبو الأفعى الجرهمي حيث أخبره الأعرابي بما حدث له معهم ، فسألهم أبو الأفعى الجرهمي لماذا أخذتم بعير هذا الأعرابي ؟ فقالوا لم نأخذه فقال لهم أبو الأفعى لقد وصفتم كل صفاته ، فقالوا لم نأخذه ولكننا عرفنا صفاته من أثاره .
فقال لهم أبو الأفعى وكيف ذلك ؟ فأخبروه بتفسيرهم للأعور لأنه يأكل من ناحية ويترك الناحية الأخرى رغم أنها الأفضل ، وأيضًا فسروا الأبتر بأنه ليس له ذيل وقد عرفوا هذا لان البعر (الروث) كان في منطقة واحدة ولو أن له ذيل لتناثر البعر هنا وهناك ، أما عن الأزور فلأن أثار رجليه تدل على ذلك وفسروا وصفهم له بالشرود من أثار أكله التي كانت تدل على ذلك .
فتعجب أبو الافعي الجرهمي وقال لهم خلوا سبيلهم فتلك فراسة يهبها الله ما يشاء ، ثم أخبروه بقصتهم مع أبيهم وبأنهم اختلفوا فيما بينهم ، فأجابهم قائلًا : القبة الحمراء هي كل شيء أحمر من دنانير وجمال حمر لآخوكم مضر ، وكل شيء أسود لربيعة من فرس وأموال وغيرها ، ثم قال أعطوا إياد أرازل المال أي الشمطاء ليست سليمة ، ثم أعطوا الأموال البيضاء من الفضة والمجلس لأنمار .
وبعد ذلك أمر خادمه أن يعد لهم الأكل والشرب ليكرم ضيافتهم ، ثم جلس بالقرب منهم وهم يأكلون لكي يستمع لهم ولكنهم كانوا لا يرونه ، فقد تبين له أنهم أهل ذكاء وفطنة منقطعة النظير ، فسمع ربيعة يقول ما رأيت أطيب من هذا اللحم لولا أن أمة غذيت بلبن كلبه ، ثم أخذ مضر يشرب من الإناء الذي أمامه وقال شراب طيب لولا أن كرمته زرعت على قبر ، ثم قال أنمار إن الأفعى الجرهمي من ثراة القوم وهو سيد إلا أنه ليس من أبيه .
ثم قال إياد والله ما رأينا كلامًا أفضل من كلامنا مع بعضنا البعض ، فذهب الأفعى الجرهمي واستدعى الراعي وسأله عن الشاة التي يأكلها الإخوة الأربعة ما قصتها ؟ فقال له الراعي أن تلك الشاة ولدتها أمها ثم ماتت ولم تكن لدينا شياة مرضعة فأرضعتها كلبة لنا ، ثم سأل الرجل الذي أحضر الشراب وعن مصدره فأخبره أنه من كرمة يزرعها على قبر أبيه .
ثم ذهب إلى أمه يسألها عن أبيه وعن حقيقة الأمر وألح عليها ، فأخبرته أن أبيه لم يكن ينجب وخافت أن يذهب هذا الملك لغيره فحدث ما حدث ، ثم عاد إليهم وقال لهم لم تعودوا في حاجة إليّ ولكن الناس جميعا في حاجة إليكم ، فسبحان الله الذي وهبهم وأعلمهم بتلك الأمور فتلك هي الزيادة وهذا هو عطاء الله الذي ينعم به على من يشاء من عباده المختارين .