إن الله قد أمر بأحكام وحين أتقبلها فلها أمانة ، وأمانتها هي أداؤها من غير نقص في شيء ، سواء كان عامًا أو خاصًا ، ولو في الحديث يجرى أمامك ، وتمتد أمانة الإيمان إلى كل شيء ، مثل أمانة أى مجلس توجد فيه ، فلا يحق لك أن تنقل أسرار غيرك إلى هذا المجلس ، أو أسرار المجلس إلى الآخرين.
قصة زياد بن أبيه والوشاية :
ونعرف رجلاً من قادة العرب هو زياد بن أبيه ، وكان شديد الحزم ، فوشى واش بهمام بن عبد الله السلولي إلى زياد ، وتوقع القوم عقابًا صارمًا بهمام ، لأن زيادًا كان يأخذ بالظن ، لكن الله ألهم همامًا كلمة ظلت دستورًا يطبق ، وحين استدعى زياد همامًا .
قال زياد : بلغني أنك هجوتني ، قال همام : كلا أصلحك الله … ما فعلت ولا أنت لذلك بأهل ، فقال : إن هذا الرجل ، وأخرج الرجل من الخباء ، أخبرني ، فنظر همام إليه فوجده جليسًا وصديقًا ومؤنسًا ، فلما رآه كذلك أقبل عليه ، وقال : أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليًا فخنت ، وإما قلت قولاً بلا علم فأبت ، رجعت ، من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة الخيانة والإثم ، أي إما أنك خائن أو آثم !.
فإن كنت قد ائتمنتك على كلمة نفست بها عن نفسي فأنت خائن ، وإن كنت اختلقتها عليّ فأنت كاذب ، فأعجب زياد هذا المنطق ، وأقصى الواشي ولم يتقبل منه ، ويقال أنه خلع على همام الصلة والعطايا ، فكان همام حين يرى الواشي ، ويقول له : هل لك في وشاية أخرى تغنيني ؟!
رسول الله وبني النضير :
وفي سيرته صلّ الله عليه وسلم وقائع حدثت في تاريخه حتى من بعض الصحابة ، وعلى سبيل المثال : نحن نعلم أنه حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعل عهدًا بينه وبين اليهود ، فاستقام لهم رسول الله صلّ الله عليه وسلم ما استقاموا للعهد ، فلما خالفوا هم العهد ، أراد رسول الله أن يؤدبهم ، فأدبهم ، وكان أول ذلك في بني النضير وأوضح لهم أنه لن يقتلهم ، بل استكفى بإخراجهم من ديارهم وإبعادهم إلى الشام .
أبو لبابة وصلته باليهود :
ثم حدثت خيانة من بني قريظة ، وحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن ، فبعثوا إلى رسول الله ، من يقول : يا رسول الله إن بني قريظة يريدون أن تصنع بهم ما صنعته مع بني النضير ، أي أن بني قريظة يعرضون ترك البلاد إلى الشام ، فرفض الرسول ذلك إلا بعد أن يحكم فيم سعد بن معاذ ، وكان يحب بني قريظة وبينه وبينهم صلة ، وعرف بنو قريظة أن رسول الله يطمئن إلى حكم سعد بن معاذ ، فقالوا : لا ولكن أرسل لنا أولاً أبو لبابة ، وهذه كنيته ، أما اسمه فهو : مروان بن عبدالمنذر ، وكان ماله في يد اليهود يتاجرون له فيه ، أي أن بينه وبينهم صلة مالية .
أبو لبابة والخيانة :
ذهب أبو لبابة إلى اليهود ، فاستشاروه في الأمر متسائلين : أنرضى بحكم سعد ابن معاذ ؟ فماذا قال أبو لبابة ؟ قال : إنه الذبح ، وأشار إلى حلقومه ، وبعد ذلك لام أبو لبابة نفسه ، وقال : والله ما جالت قدماي حتى تيقنت أني خنت رسول لله صلّ الله عليه وسلم ، ولكن انظروا إلى الإيمان ، ويقين الإيمان ، وترجيح أمر الآخرة على أمر الدنيا ، والنظر إلى افتضاح الإنسان في الدنيا ، أمر هين بالنسبة لافتضاحه في الآخرة .
عطف الله على أبو لبابة :
ذهب إلى سارية المسجد ، أي عمود في وسط المسجد ، على مرأى ومشهد من الناس ، وحكم على نفسه بأن يربط نفسه بالسارية بيده ، وظل لا يطعم ولا يشرب سبعة أيام ، حتى خارت قواه وغشيّ عليه وسقط ، فعطف الله عليه ، وأبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قد تاب عليه ، فقالوا له : حل نفسك بنفسك ، لأنك أنت الذي ربطت نفسك ، فقال : والله لا أحلها حتى يحلني رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، فذهب رسول الله وحله من السارية ، لماذا فعل أبو لبابة ذلك بنفسه ؟ لأنه شعر بأنه خان رسول الله صلّ الله عليه وسلم في أنه قال لليهود إنه الذبح .