وقعت هذه القصة مع التابعي سعيد بن جبير ، هذا الإمام المعلم والفقيه المفوه الذي تعلم العلم على يد حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه وأيضًا علي يد الصحابي عبدالله بن عمر لخطاب رضي الله عنهما .
ولد بن جبير عام 38 هجرية وسكن الكوفة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعمل على نشر العلم حتى أصبح من كبار العلماء في التاريخ الإسلامي ، وقد روي الحديث عن الكثير من الرواة مثل ابن عباس والسيدة عائشة رضي الله عنهما كما روى عن أبي موسي الأشعري وغيرهم .
وقرأ سعيد بن جبير القرآن على ابن عباس رضي الله عنه وكان من فرط إيمانه يحج مرة ويعتمر مرة وكان صوامًا قوامًا قارئًا لكتاب الله عزوجل ، لدرجه أنه كان يختم القرآن في صلاة القيام ، وكان بن جبير يبكي من خشية الله حتى ضعف بصره .
ويقال عنه أنه كان أحد ورثة العلم من الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد كان هو كلمة الإجماع في عصره حيث لما كان الناس يحضرون إلى ابن عباس رضي الله عنه يستفتونه وهم من أهل الكوفة ، كان يقول لهم أليس فيكم سعيد بن جبير ؟ فهو إمام حجة على المسلمين .
ومن مواقف المعروفة مع الحجاج بن يوسف الثقافي أنه لم يمتثل له ، فحينما كان في سن الـ 35 شاهد جبروت الحجاج وما فعله بمحاصرة مكة وقيامه بقتل الخليفة عبدالله بن الزبير سنة 37 هجرية ، وأخذ البيعة عنوة من الناس بحد سيفه فتولد الكره في عموم مكة تجاه هذا الطاغية .
ومن هنا غادر التابعي الجليل مكة إلى الكوفة وأخذ ينشر بها العلم ولكنه فوجئ بتولي الطاغية الحجاج الثقافي على العراق ، وقد حاول الحجاج استمالة العلماء ومنهم التابعي الجليل سعيد بن جبير فأغدق عليه العطايا والنعم ، ولكن سعيد بن جبير لم يغير موقفه من الحجاج .
وفي عام 82 هجرية كان ابن الأشعث أحد قادة الحجاج يقود جيشًا لقتال الترك ، ولكن بسبب صعوبة المناخ رفض ابن الأشعث القتال في فصل الشتاء حيث قساوة الجو والثلوج ، ولكن الحجاج أصر فأعلن ابن الأشعث العصيان وخرج على الحجاج وعلى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان .
وكان سعيد بن جبير من الذي خرجوا للجهاد لنصرة دين الله وأعلن التابعي الجليل دعمه لابن الأشعت ضد الحجاج ، وانضم إليهما الكثير إلى وظل الاحتدام بين الطرفين واندلعت بينهما ثورة لمدة عامين ولكن تلك الثورة انتهت ، وقضي الحجاج على الكثير منهم وكان يؤتي بالرجل منهم فإما أن يشهد على نفسه بالكفر أو أن يقتل .
فهرب التابعي الجليل سعيد بن جبير إلى أصبهان مع الكثير من العلماء عام 83 هجرية ، وطارده الحجاج الثقافي إلى حيث ذهب ولكنه هرب متخفيًا إلى العراق ، وظل يتنقل من مكان إلى أخر طيلة اثنى عشر عامًا كاملة إلى أن استقر بمكة المكرمة ، وعندما تم تعيين عثمان بن حيان والى على مكة بدأ في القبض على أصحاب ابن الأشعت وإرسالهم للحجاج .
وبالفعل تم القبض على التابعي الجليل سعيد ابن جبير وإرساله إلى الحجاج ، وكان بمقدوره أن يهرب من مكة ولكنه قال والله استحيت من الله من كثرة الفرار ولا مفر من قدر الله ، وبمجرد وصوله إلى الكوفة أمر الحجاج بإحضاره ودار بينهم حوار تاريخي .
حيث وضع الحجاج أموالًا كثيرة بين يديه ، فقال له التابعي الجليل لأن كنت يا حجاج قد جمعت هذا المال لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح ولكن فزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وهكذا يفشل الحجاج في إغرائه بالمال لذا يقول له :
ويلك يا سعيد !! فقال له التابعي الجليل : الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار ، فنظر إليه الحجاج قائلًا : أي قتلة تريد أن أقتلك ؟
فقال التابعي الجليل اختر لنفسك يا حجاج فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة ، فقال له الحجاج بن يوسف : أتريد أن أعفو عنك ، فقال التابعي الجليل إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر ، فاغتاظ الحجاج أمرًا رجاله أن اذهبوا به فاقتلوه
فلما خرجوا ليقتلوه بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف ، فنظر إليه التابعي الجليل وقال ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة ؟ ثم تلى تلك الأية الكريمة { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {سورة الحديد ، الآية 22 }
وبعدها ضحك سعيد فتعجب الناس وأخبروا الحجاج ، فأمر برده وسأله : ما أضحكك ؟ فقال التابعي الجليل عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك ، فقال الحجاج رجاله : اقتلوه فجاؤا بما أعد لموته ، فقال التابعي الجليل مسلمًا أمره لله { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { سورة الأنعام ، الآية 79}
فأمر الحجاج أن يوجهوه لغير القبلة ، فقال التابعي الجليل { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } {سورة البقرة ، الآية 115} ، فقال الحجاج كبوه على وجهه فقال التابعي الجليل : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } { سورة طه ، الآية 55} وهنا قال الحجاج اذبحوه .
فقال التابعي الجليل أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ، خذها مني يا حجاج حتى تلقاني بها يوم القيامة ، ثم دعا سعيد ربه فقال اللهم لا تسلط الحجاج على أحدٍ بعدي واجعل دمي نقمة عليه ، وفي رواية اللهم لا تسلطه على أحد بعدي لكي يقتله .
ومات التابعي الجليل شهيدًا في 11 رمضان سنة 95 هجرية ، وبالفعل عاش الحجاج بعدها 40 يومًا كان كل يوم يقوم مفزوعًا من الرؤيا وهو يقول ويلي مالي ولسعيد ، حيث كان يرى سعيد بن جبير في الرؤيا وهو يجري خلفه بالسيف .
فلقد اقض مضجعه وفارق النوم جفنه بعدها وهكذا انتهت أسطورة الحجاج بن يوسف الثقافي بدعوة هذا التابعي الجليل سعيد بن جبير عليه ، وبالفعل لم يقتل أحد من بعده على يد الحجاج ومات الحجاج نفسه بعده بأربعين ليلةٍ فقط .