في يوم من أيام الشتاء الباردة خرجت السفينة تمخر عباب البحر وعلى متنها بعض البحارة الذين خرجوا في طلب الرزق ، فهبت عليهم رياح عاتية عصفت بالسفينة وأغرقتها بمن عليها ، فغرق منهم من غرق ونجا من نجا بمساعدة الآخرين ، أما أحدهم فتلاعبت به الأمواج يمينًا ويسارًا حتى قذفته على شاطئ لجزيرة مجهولة في وسط البحر .
فلما استيقظ الرجل وجد نفسه وحيدًا دون أنيسٍ أو جليسٍ ، وكانت الجزيرة مقفرةٌ لا شيء بجواره سوى بعض الأشجار الوارفة التي استظل بظلها ، أخذ الرجل يفكر في حظه السيئ وكيف أن الله نجاه من الغرق في البحر ليموت من الجوع في البر ، أخذ الرجل يبكي ويناجي ربه كي ينقذه من هذا المصير المحتوم .
وظل يطلب العون من الله على أمل النجاة ولكن لم يحدث جديد ، فقرر الرجل ألا يستسلم للموت وعاش على ثمار الشجر ومياه الجزيرة ، ولما طال به الأمد قرر أن يبني لنفسه كوخًا يحتمي به من حر الشمس وبرودة الليل .
وأخذ يكسر الأغصان ويجمع الأخشاب ليصنع كوخه الصغير ، عمل أيامًا متتالية دون راحة أو كلل كي ينهي ما بدأه ويحتمي بداخل الكوخ الصغير ، وبالفعل استطاع أن يبني الكوخ ويضع كل ما يلزمه فيه كي يعيش .
فافترش الأغصان وأوراق الشجر كي ينام عليها ، وجمع الثمار واصطاد الحيوانات كي يأكل منها ، وأخذ الرجل يحاول أن يتكيف مع وضعه الجديد فالله لم يبعث له بمن ينقذه رغم الدعاء والبكاء .
وظل الرجل على هذا الحال حتى استيقظ ذات يومًا وجلب لحم الأرانب التي اصطادها وجعل يشويها ، فأوقد النار في الكوخ وذهب ليحضر بعض الثمار الطازجة ، وعند عودته إلى الكوخ بعد مدة قصيرة وجده يحترق .
لقد التهمت النيران أغصان الشجر وفروعه التي بنى منها بيته الصغير بعد كدٍ وتعبٍ ، لقد استغرق في بنائه أيامًا وليالي في شقاءٍ وتعب وها هو الآن يحترق أمام عينيه ، صرخ الرجل : يا الله لماذا أنا ؟ لماذا فعلت بي هذا يا الله ؟ ماذا صنعت بحياتي كي يكون هذا مصيري ؟ دعوتك ولم تستجب لي فصبرت ولكن ما بعد الصبر كان أصعب وأمر !
ثم نام الرجل من فرط تعبه وانهياره وهو جائع لم يدخل الطعام جوفه ، يكاد الألم يعتصر قلبه والاستسلام يؤنس وحدته ، حتى أشرق الصبحٌ فكانت المفاجأة فحينما فتح عينيه كان هناك سفينة تقترب منه ، لم يصدق الرجل ما رآه فها هو القارب ينزل منها وعلى متنه بعضهم يسيرون صوب الجزيرة التي يقف عليها .
كان الرجل يقفز من الفرح لم يصدق ما يحدث أما عينيه ، أنهم أناسٌ حقيقيون وتلك سفينتهم التي يقف على متنها ، سألهم كيف عرفتم مكاني وهل جئتم إلى هنا بالصدفة أم ماذا ؟ أجابوه ويا للعجب لقد كنا نمر في الجوار فرأينا دخانًا كثيفًا يتصاعد إلى السماء ، فعلمنا أن على الجزيرة شخصًا يطلب المساعدة ، لذا غيرنا وجهتنا وجئنا كي ننقذه .
فبُهت الرجل ووقع على الأرض من شدة ما سمع وتعجب من قدرة الله ورحمته ، فبعد أن أساء به الظن وأخذ يندب حظه العاثر على احتراق الكوخ ، ينقذه الله بنفس السبب الذي ظنه هو شرًا له ، ولكن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فسبحان الذي قد حرق الكوخ لكي يلفت الأنظار إلى عبده الغافل وهو لا يدري شيئًا عن تدبير الله !
فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (سورة النساء ، الآية 79)
كما يقول تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام البخاري بسنده في الصحيح عن أبي هريريه رضي الله عنه أن رسول الله صلّ الله عليه وسلم قال : (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )