هي أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية التي وهبت حياتها وكل ما تملك لخدمة دينها وكانت من المجاهدات الصابرات ، فقد جاهدت جنبًا إلى جنب مع الصحابة الأوائل لإعلاء راية الحق أمام الكفار ، وسجل لها التاريخ جهادها بأحرف من نور .
أعلنت نسيبة إسلامها وبايعت رسول الله صلّ الله عليه وسلم في بيعة العقبة وحسن إسلامها ، ولم تترك غزوة إلا وشاركت فيها فقد كانت تضمد الجرحى أو تسقي الجنود ، وتحمس الرجال على قتال أعداء الله ورسوله ، وفي غزوة أحد خرجت مع زوجها وابنيها إلى تلك الغزوة المباركة .
وفي أول النهار كانت تسقي الجرحى ولما دارت الدائرة على المسلمين حين لم يستجيبوا لأمر رسول الله ، استلت قوسها وكانت تدافع به عن رسول الله بكل ما أتاها الله من قوة ، حتى أصيبت بالجروح الكثيرة ، وتقول أم عمارة في وصف ما حدث : لقد انكشف الجنود عن رسول الله ولم يتبق إلا عشر ، وأنا وزوجي ووالدي ندافع عن رسول الله صلّ الله عليه وسلم .
ولما تكاثر الكفار بهجومهم على رسول الله استلت سيفها ، وشقت صفوف الكفار تقاتل يمينًا وشمالًا حتى أن الرجال هابوها ، وقال ضمرة بن سعد عن جدته نسيبة في يوم أحد : (إن مقام نسيبة اليوم خير من مقام فلان وفلان) ، فقد جرحت يومها ثلاثة عشر جرحًا ولم يهدأ لها جفن إلا حينما اطمأنت على رسول الله .
وتقول أم عمارة أيضًا : ( لقد فعل أصحاب الخيل بنا الأفاعيل فلقد كان أحد الكفار يقبل بفرسه فيضربني ، وأترس له فلا يصنع شيئًا ويولي فأنخفض وأضرب عرقوب فرسه فيقع على ظهره ، وحينها صاح نبي الله : وقال يا ابن أم عمارة أمك أمك .
فعاونها ابنها عليه حتى قضت عليه المجاهدة البطلة ، وظلت تقاتل حتى أصيب ابنها عبيد بن زيد وسال دمه وهي مشغولة بقتال الأعداء فنادى رسول الله صلّ الله عليه وسلم عليه بصوته قائلًا : أعصب جرحك فانتبهت نسيبة بنت كعب إلى ابنها وربطت جرحه ، ثم قالت له انهض بني فأضرب الكفار .
فقال رسول الله صلّ الله عليه وسلم : (ومن يطيق ما تطيق أم عمارة) ، فأقبل الكافر الذي ضرب ابنها صوبها فأخبرها رسول الله بذلك ، وقال لها : هذا ضارب ابنك فضربت أم عمارة ساقه ، وعن هذا تقول أم عمارة : فنظرت حينها لرسول الله فرأيته يبتسم حتى رأيت نواجذه .
ثم قتلت أم عمارة ذلك الكافر وأجهزت عليه ودعمها الرسول الكريم حين قال لها : (الحمد لله الذي أضفرك وأقر عينك من عدوك وأراك ثأرك بعينيك ) ، وتمر الأيام وتشهد أم عمارة مع رسول الله بيعة الرضوان في غزوة الحديبية ، وتلك البيعة كانت للمعاهدة على الشهادة في سبيل الله يوم حنين.
وبعد وفاة رسول الله صلّ الله عليه وسلم وحينما كان أبو بكر الصديق أمير المؤمنين ارتدت بعض القبائل ، ورفضت بعض القبائل الأخرى دفع الجزية ، فذهبت أم عمارة إلى أبو بكر الصديق تأذنه بالالتحاق بالجيوش التي تحارب المرتدين فأذن لها أبو بكر الصديق بذلك ، وخرج معها أيضًا ابنها عبد الله بن زيد وجاهدت جهادًا عظيمًا ضد المرتدين .
ويذكر أن النبي صلّ الله عليه وسلم قد أرسل ابنها حبيب بن زيد إلى مسيلمة الكذاب كي يحذره من ادعائه النبوة ، ولكن مسيلمة أبى واستكبر وطلب من حبيب ابن زيد أن ينضم له فرفض ، فقتلة مسيلمة وقطع جسده وكان حبيب صابرًا محتسبًا .
ولما جاء الخبر للمجاهدة نسيبة بنت كعب أقسمت لتثأر من هذا الكافر مسيلمة ، وفي إحدى غزوات سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه خرجت نسيبة بنت كعب للجهاد مع المسلمين ، وأخذت تصيح قائلة : أين أنت يا مسيلمة اخرج يا عدو الله ، وجرحت يومها اثنتا عشرة جرحًا ولكنها واصلت جهادها حتى قطعت يدها .
ويومها قام وحشًا بن حرب بتوجيه حربته إلى مسيلمة فأسقطه أرضًا وأجهز عليه عبد الله بن زيد ابنها ، ولما تم شفائها قاتلت ضد الفرس أيضًا وحينما انتصر المسلمون وحصدوا الغنائم بكت وتذكرت رسول الله صلّ الله عليه وسلم وهو يقول : ( الله اكبر أعطيت مفاتيح فارس ) وتوفيت المجاهدة الصابرة عام 13 هجرية بعد رحلة طويلة من الجهاد في سبيل الله عزوجل .