نشأ الفتى في عالم من عوالم الترف التي يُخيم عليها السعادة والنعيم في كل جوانب حياته ، ولِمَ لا وقد كان أبوه من بني نمير وهو أيضًا أحد الحكام ، وكانت أمه من بني تميم ، كانت الأسرة تعيش في أحد القصور المطلة على شاطئ الفرات ، وسُمي الفتى بالرومي نسبة إلى الزمن الطويل الذي قضاه ببلاد الروم .
وفي أحد الأيام التي كانت تمر عليه وهو يرفل في النعيم قررت أم الفتى أن تخرج للنزهة مع حشمها وخدمها إلى أحد القرى ، والتي كانت تدعى الثَّنىِّ ، وإذا بالبلاد تتعرض لهجوم عنيف من الروم ؛ فقامت بقتل الحراس ، ونهب الأموال ، وآسر من يقع بين يديها ، وكان الفتى من جُملة من تم أسرهم .
تم بيعه في سوق الرقيق ، وظل ينتقل من مكان إلى مكان ، ومن خدمة سيد إلى سيد آخر إلى أن انتهى به الطواف إلى مكة المكرمة ؛ فقيل أن عبدالله بن جدعان هو من اشتراه وأعتقه ، وقيل أنه هرب من الرق عند أسياده وذهب إلى مكة .
ذهب أحد الكهنة إلى سيده في يوم من الأيام ، وأخبره أنه قد أطل الزمان الذي سيظهر فيه النبي الأمين المُصدق لرسالة عيسى عليه السلام ، ويُخرج الناس من ظلمات الجاهلية إلى النور ، ولم يكن سيد الكاهن هو فقط من سمع هذا الكلام بل سمعه أيضًا الفتى الرومي .
ومنذ ذلك الوقت وهو متشوق لبعثة النبي صلَّ الله عليه وسلم ، فلما وصل إلى مكة المكرمة وعَمل على بناء ثروته من عمله بالتجارة ظلَّ يتتبع أخبار النبوة ، ويسأل هل ظهر النبي الخاتم صلَّ الله عليه وسلم أم ليس بعد ؟!
بدأت بعثة النبي صلَّ الله عليه وسلم ، وبدأت تسري الهمسات بين الناس عن دعوته في عبادة إله واحد ، وترك عبادة الأصنام حتى اللات ، وهبل ، والعزى ، وبمرور الأيام كان الهمس يزداد ، ويتعالى ، ويصبح أكثر وضوحًا حتى وصل إلى صهيب ؛ فشرح الله قلبه ونفسه للدين الجديد .
بدأ القرار يتشكل في قلبه وعقله حتى جاء صباح أحد الأيام كان قد قرر القرار النهائي في هذه الدعوة ؛ فانطلق قبل أن تدب الحياة في مكة إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم .
سار حذرًا إليهم حتى إذا بلغ المنزل وجد عنده عمَّار بن ياسر ؛ فسأل كل منهما الآخر عن سر توجه كل منهما إلى دار الأرقم في ذلك الوقت ، فكانت إجابتهم واحدة هي رغبتهم في سماع كلام النبي صلَّ الله عليه وسلم .
دخل كل منهما إلى الدار عند الرسول الكريم عليه الصلاة وأفضل السلام ؛ فما إن سمعا ما يقول حتى أشرقت قلوبهم بنور الإيمان ، وعندها مدَّ كل منهما يده ، وشهِدا بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
ظل الإثنان طوال اليوم يستمعان لكلام النبي صلَّ الله عليه وسلم حتى أقبل الليل ، ولما هدأت الحركة خرج كل منهما من عنده وهو يحمل في طيات قلبه من النور ما يكفي لإضاءة الدنيا بأسرها .
بدأت الحياة تأخذ أشكالًا جديدة في عينيه منذ دخوله في الإسلام ، فسرعان ما تلاشت صور حياته قبل الإسلام من عقله ، وأضحت حياته ذات عمق ومغزى ، وعندما بدأ الإسلام في الانتشار قرر المشركون محاربته ، واشتد غضب قريش ونقمتها على الإسلام عندما بدأ الضعفاء من القوم في الدخول في الإسلام .
بدأت قريش بتعذيب المستضعفين من المسلمين ، وكان منهم الصحابي الجليل لكنه صبر على الأذى راضيًا بقضاء الله تعالى ، وراغبًا في رضاه فهو يعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره .
بدأت مرحلة الهجرة المباركة في تاريخ الإسلام ؛ فهاجر النبي صلَّ الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فتاقت نفسه للهجرة كما أقرانه من المسلمين ؛ فما كان من إلا أن اعترضته ، وعندها قرر أن ما عند الله خيرٌ وأبقى ؛ فضحى بماله كله من أجل أن يتركوه ليلحق بالنبي صلَّ الله عليه وسلم .
كان من كبار السابقين البدريين ، فيقول عن نفسه أنه شَهِدَ مع النبي كل مشاهده ، كان حاضرًا في كل غزوة غزاها ، وكل بيعة بايعها ، وكل سرية سرى بها ؛ فكانت مكانته عند النبي صلَّ الله عليه وسلم تزداد يومًا بعد يوم ، فقد كان دائما بجواره لا يتخلف عنه أبدًا ويحرص كل الحرص على أن ينال رضاه .
توفي الرسول صلَّ الله عليه وسلم ، فظلت مكانة الصحابي الجليل عظيمة في نفوس الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعًا ، وبقى يقضى حياته فى الجهاد والعمل الصالح .
وظل يجاهد بنفسه وماله ابتغاء مرضاة الله حتى شعر أن الله قد أعز جنده ، ونصر دينه ، وتحطمت قلاع الكفر وحصون البغى فى بلاد الروم وفارس ؛ فآثر الاعتزال في زمن الفتنة ، وأقبل على شأنه ، وبعد حياة مديدة مليئة بالعطاء للإسلام والمسلمين فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها في شهر شوال عام 38 هـ بالمدينة المنورة فرضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين .