هل أتاك نبأ هذه التابعي الجليل ؟! إنه فتى جمع المجد من أطرافه كلها ، حتى لم يفته منه شئ ، وفوق ذلك أنه قد توَّج هامته بتاج التقى والعلم ، فقد كان أفضل أهل زمانه علمًا وأحدَّهم ذهنًا ، وأشدهم روعًا .
نسبه وعائلته :
كان أبوه هو محمد بن أبي بكر الصديق ، وكانت أمه هي بنت كسرى يزدجرد آخر ملوك الفرس ، وعمته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وكان القاسم هو أشبه بني أبي بكر بجده سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
ميلاده ونشأته :
ولد القاسم في نهاية خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لكن الطفل ما كاد يكبر قليلًا حتى عصفت في ديار المسلمين رياح الفتنة الهوجاء ؛ فاستشهد الخليفة ذو النورين وهو منحن بصلبه على آيات القرآن .
ونشب الخلاف الكبير بين أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان أمير بلاد الشام ، وفي سلسلة مفزعة مذهلة من الأحداث المتلاحقة وجد الطفل الصغير نفسد يُحمل مع أخته إلى مصر من المدينة المنورة .
فقد كان عليهما أن يلحقا بأبيهما بعد أن غدا واليًا على مصر من قِبَل أمير المؤمنين ، ولم يمكث بها إلا القليل ، فقد امتد أظافر الفتنة لتشمل أبيه فترديه قتيلًا ، فوجد نفسه يُنقل مرة أخرى إلى المدينة المنورة عائدًا من مصر بعد أن استولى أنصار معاوية بن أبي سفيان عليها وقد أصبح الصبي يتيمًا لطيمًا .
عاش الصبي وأخته في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها حتى شبَّا ، ثم أخذهما عمهما عبد الرحمن إلى بيته ، ولكن ظل قلب الصبي معلق بالسيدة عائشة وحنانها الذي كانت تعاملهما به ، ففي بيتها رأي عبق طيب النبوة ، وفي حنان صاحبة هذا البيت نشأ وترعرع ؛ فصار يوزع وقته بين بيتها وبيت عمه عبد الرحمن .
ما أشبه الشاب بجده…
وعندما شبَّ الفتى كان قد حفظ كتاب الله عزَّوجل ، وأخذ عن عمته رضي الله عنها من حديث النبي صلَّ الله عليه وسلم ما شاء الله له أن يأخذ ، فاقبل على الحرم النبوي ، وانقطع إلى حلقات العلم التي كانت تنتثر في كل ركن من أركان المسجد كما تنتثر النجوم الزُّهر على صفحة السماء .
ولمَّا اكتملت للشاب البكري أدوات المعرفة ؛ أقبل الناس عليه يلتمسون عنده العلم بشغف ، وأقبل هو عليهم يبذله لهم بسخاء ، فكان يأتي مسجد رسول الله صلوات الله عليه وسلم غداة كل يوم في موعد لا يخلفه فيصلي ركعتين يحي بهما المسجد .
ثم يجلس عند خوخة عمر رضي الله عنه بين قبر النبي صلَّ الله عليه وسلم وبين منبره ، فيجتمع عنده طلاب العلم من كل مكان ، وينهلون من علمه ومعرفته ما يملأ نفوسهم العطشى للعلم رِيًا .
ولقد كان القاسم أشد الناس شبهًا بجده رضي الله عنه حتى قال الناس : لم يلد الصدِّيق ولدًا أشبه به من هذا الفتى ، فقد كان شبيهًا له في نبل الخصال ، والإيمان ، وشدة الورع ، والسخاء ، والسماحة التي كان يتمتع بها .
وفاته :
توفي التابعي الجليل وعمره يناهز الثانية والسبعين في نهاية عام 106هـ ، أو بداية عام 107هـ ، وقد كان متوجهًا إلى الحج بمكة المكرمة ، وعندما أحس بقرب وفاته قال لأبنه أن يتم تكفينه كما تم تكفين جده رضي الله عنه ، فرحمة الله على الشيخ العابد وألحقنا به مع الصالحين .