كان فتى ذا جسد قوي وخلق رفيع ، تتدفق منه الحيوية والنشاط ، وبالإضافة إلى ذلك كان ذكي الفؤاد ، حاد الفطنة ، شديد الحرص على المكارم ، مجتنبًا المحارم أشد الاجتناب ، ولم يكن سواد لونه ، وفلفة شعره ، وحبشية أصله لينالوا من شخصيته المتميزة الفذة ، وذلك رغم حداثة سنه .
ولقد أدرك الفتى الحبشي أصلًا ، العربي ولاءً أن العلم إنما هو طريقه القويم الذي أوصله إلى الله ، وأن التقى إنما هي سبيله الممهدة التي تبلُغ بهِ الجنة ؛ فجعل التقى في يمينه والعلم في شماله ، وشد عليهما يديه كلتاهما .
شغفه الشديد للعلم والمعرفة
فانطلق يعدو بهما غير متهاون أو متمهل ، فمنذ صغره كان الناس يعلمون أنه إما معتكفًا على كتبه ينهل من بحر العلوم ، وإما أنه متواجد في محرابه للتعبد والوقوف بيت يدي الله تعالى .
تعلم الفتى من الكثير والكثير من كبار الصحابة ومنهم : أبي موسى الأشعري ، وأبي هريرة الدوسي ، وعبد الله بن عمر ، والسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين ، ولكن كان أستاذه الأكبر ، ومعلمه الأعظم هو عبد الله بن عباس حبر أمة محمد صلَّ الله عليه وسلم ، وبحر علمها الزاخر .
لزمه الفتى لزوم الظل لصاحبه فأخذ ينهل منه من علوم القرآن وتفسيره ، وكذلك علوم الحديث ، فكان متابعته لعبد الله بن عباس لها مردودها ، فقد تفقه في الدين وأتقن اللغة أعظم تمكن ، ظل سعيد رضي الله عنه يطوف بين البلاد بحثًا عن العلم والمعرفة حتى إذا ما شعر أنه أخذ فيضًا من العلم ، انطلق إلى الكوفة فكان لأهلها معلمًا وإمامًا .
وكان طلاب العلم دائمًا ما يقصدونه لطلب العلم ومعرفته التي جاب البلاد شرقها وغربها حتى يتحصل عليه ، وكانوا يقصدونه ليغترفوا من هديه القويم ، وكانت الكوفة في الوقت الذي ظل بها خاضعة للحجاج بن يوسف الثقفي ، وكان الحجاج في ذلك الوقت في أوج سلطانه وسطوته ، وكان ذلك بعد قتله عبد الله بن الزبير .
بداية الفتنة
وبدأت عندما بعث الحجاج بن الأشعث لغزو إحدى المناطق الواقعة وراء سجستان ، فانتصر القائد المظفر ، وبعث بعد ذلك بكتاب إلى الحجاج يستأذنه بالتوقف عن القتال ؛ حتى يدرس مخارج ومداخل البلاد ويعرف طبيعة أهلها وأحوالهم .
لكن الحجاج اتهمه وجيشه بالتخاذل والجبن ، وعندما وصل كتاب الحجاج إلى ابن الأشعث خرج به إلى الجند وقرأه عليهم ، واستشارهم في ما يجب عليه فعله ردًا على كتاب الحجاج ، فشجعوه ودعوه إلى الخروج على الحجاج ونبذ طاعته ، فسألهم مبايعته على ذلك لأمر ؛ فبايعوه ، وقامت المعارك بين جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث وكان النصر فيها حليفًا لإبن الأشعث .
وظل على انتصاراته حتى بدأت ترجح كفة الحجاج بن يوسف حتى تمت هزيمة ابن الأشعث ، وعندها فر هاربًا بنفسه دون التفكير في باقي الجيش ، أمر الحجاج جنوده بالمناداة في الناس لتجديد البيعة له ؛ فاستجاب كثير من الجيش ولكن كان هناك من توارى ولم يتمم له البيعة وهؤلاء كان نصيبهم القتل وكان من بينهم سعيد رضي الله عنه .
وفاته :
رحل سعيد عن الكوفة سريعًا ؛ خوفًا من القتل على يد الجنود وظل يجوب بلاد الله الواسعة ، حتى استقر في قرية صغيرة في أراضي مكة وظل بها عشر سنوات ، حتى أصبح واليًا على هذه القرية أحد ولاة بني أمية وهو خالد بن عبد الله .
وعندها خاف أصحاب سعيد رضي الله عنه من هذا الوالي ، وطلبوا منه أن يترك القرية ويذهب لمكان آخر ؛ حتى لا يعلم الحجاج بمكانه ، ولكنه رفض رفضًا شديدًا وأصر على عدم الرحيل .
علم الحجاج بمكان التابعي الجليل ، وأمر أن يُساق مقيدًا حتى يصل إليه ، وعندما وصل إليه أمر الحجاج بذبحه ، وأدَّعى أنه عدو لله ودينه ، وهكذا استشهد التابعي الجليل رحمه الله ، وباء الحجاج بن يوسف الثقفي بإثمه ، ودعا سعيد بن جبير على الحجاح وقال اللهم لا تسلطه على أحد بعدي لكي يقتله ، واستجاب الله تعالى له ، ومرض الحجاج مرض شديد ولم يقتل أحد بعدها لعشر سنوات حتى الموت .