لقد أرسل الله تعالى للبشرية جميعًا الأنبياء والرسل لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، فأرسلهم الله بالكتب المقدسة والمعجزات كذلك ، فلم يرسل الله تعالى ملكًا ليدعو إلى سبيل الله ، وإنما الله أرسل بشرًا لكل قومٍ ، لكي يتكلم بألسنتهم وجاءت المعجزة لكي تتناسب مع الزمن والمكان .
ولقد عانى الرسل في دعوتهم لله وطريق الحق ، فكان أهلوهم وأقوامهم يؤذونهم ومنهم من حاول قومه قتله والبعض الأخر تم قتلهم ، ولكن الله جل في علاه ، كان يُلهمهم الصبر على البلاء ، فالدعوة لطريق الله ليست بالأمر الهين ، ومن أمثال الرسل الذين عانوا في دعوتهم لسبيل الله تعال هو نبي الله نوح – عليه السلام .
من هو نوح عليه السلام :
وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ أي أدريس وينتهي نسبه إلى شيث عليه السلام بن آدم أبي البشر ، وعرف قبل النبوّة بالصلاح ، والسيرة الحسنة ، والاستقامة ، والخلق الرفيع والمحبة من الناس .
وذكر نوح عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم في حوالي ثلاث وأربعون موضعاً ، وذكر في القرآن الكريم سورة باسمه (سورة نوح) ؛ وبسبب تحمل الأذى الكبير من قومه ، صنّفه الله سبحانه وتعالى من أولي العزم من الرسل .
ولُقِبَ نوحٌ – عليه الصلاة والسلام – بأبي البشر الثاني ، حيث أن أولهم هو آدم – عليه السلام – ، ولقد ورد ذكره في التوراة كما ذُكر في القرآن كذلك ، ولقد عاش بعد آدم – عليه السلام – بحوالي ألفٌ وستمائة عام .
وكان سيدنا نوحٍ هو أول نبيٍ يبعثه الله بعد النبي إدريس – عليه السلام ، كان نوح عليه السلام أطول البشر عمرًا ، ويُروى أنه يوم وافته المنية جاءه ملك الموت يقول له يا أطول الناس عمرًا كيف وجدت الدنيا فقال وجدتها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الأخر .
مهنة سيدنا نوح عليه السلام والبعثة :
كان نوحٌ يعمل نجارًا في زمنٍ كان يطول فيه عمر الإنسان ، ويعيش فيه طويلًا ، وكان القوم حينها يعبدون الأصنام من دون الله ، فبعث الله فيهم نوحًا نبيًا وكان عمره حينها ثمان مائةٍ وخمسون عامًا ، وكان يدعوهم ليعبدوا الله وحده ولا يشركون به شيئًا وأن يتقوه ويؤمنون به وأن يكونوا مصلحين .
ولكن ما كان ردهم على دعوته إلا أن يضربونه في كل مرة حتى يفقد وعيه تمامًا ، وكلما أفاق وعاد له وعيه اتجه إلى الله – سبحانه وتعالى – داعيًا “ربِ اهدِ قومي إنهم لا يعلمون” فيعودون إلى ضربه حتى تسيل الدماء من أذنيه ويفقد وعيه من جديد ، فيلقونه في بيته أو على عتبة داره فاقدًا للوعي .
دعوة نوح عليه السلام :
وقد أخبرهم نوح – عليه السّلام – أنّه لا يرجو من وراء دعوته إلى الله – سبحانه وتعالى – أيّ أجر ، بل أنّه يبتغي كلّ الأجر من الله وحده ، قال سبحانه وتعالى : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) سورة الشعراء الآية 109 .
فما هو إلا عامل لله، ومبلِّغ لرسالة ربّه ، غير أنّ قومه لم يستجيبوا له ، وقد وصفوا ما دعاهم إليه بالضّلال ، فقالوا : (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) سورة الأعراف الآية 60 .
وليس ذلك فحسب ، بل أنّهم قد أصرّوا على عنادهم ، وكفرهم ، وشركهم بالله وحده ، قال سبحانه وتعالى:(وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) سورة نوح الآية 23 .
وكان نوحٌ – عليه الصلاة والسلام – يدعو قومه بالليل والنهار ، ويحذّرهم من عاقب الله لهم ، ورغم ما تعرّض له من أذى وعذاب استمرّ في دعوته ، ولم ييأس من روح الله ، وقد اتّبعه القلة من فقراء قومه حيث يقدرون ثمانين نفساً ، وكان من بينهم أبناءه الثلاثة “سام ، وحام ، ويافث” ، أمّا الابن الرابع كنعان فلم يتبعه .
أصرّ قوم نوح عليه الصلاة والسلام على الكفر والعصيان ، والعناد بوجه الحق ، وحاربوا كل الضعفاء الذين آمنوا مع سيدنا نوح علية السلام ، وغضب الله – سبحانه وتعالى – على قوم نوح حينما رآهم يكيلون لنبيه السباب والضرب .
ابتلاء الله تعالى لقوم نوح عليه السلام :
وهم يعبدون أصنامًا وأوثانًا ما هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، فعاقبهم الله بأن أعقم نساؤهم وجعلهم غير قادرين على إنجاب الأطفال أربعين سنة ، وكذلك ابتلاهم الله – عز وجل – بالجفاف وقلة المطر ، فأصبحت الزروع يابسة وأراضيهم بورًا ، حتى افتقروا وكادوا يهلكون جميعًا.
وأحثهم نوح على الاستغفار ودعاهم لسبيل الله مرة أخرى فقال لهم ” استغفروا ربكم إنه كان غفارًا ” وأخبرهم نوح – عليه الصلاة والسلام – أنهم إذا استغفروا الله تعالى ، سيغفر لهم وينزل المطر ، ويمدهم بالمال والأبناء ، ويمنحهم سعة الرزق ، وأن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تملك من لنفسها ضرًا ولا نفعًا ، فكيف لها أن تنفعهم أو تضرهم ؟
لكن قومه رغم الابتلاءات والمصائب التي حلت بهم ، إلا أنهم لم ينصتوا له ، ولم يؤمنوا بالله ولم يستجيبوا لدعوته إلى الله ، وقد رأوا أن كل من آمن معه كانوا من الفقراء الضعفاء فتكبروا عليه ووصفوه بالجنون .
بل طلبوا منه أن يطرد الذين آمنوا معه ، ويكف عن مصاحبتهم ، لكن نوحًا – عليه الصلاة والسلام – لم يستسلم حينها ، وظل يدعو إلى الله بكل قوته ، على أملٍ أن يهتدي قومه ، وظل يؤكد لهم ، أنه لا يدعي الملك وأنه ليس ملكًا ، ولا يملك الخزائن فالخزائن لا يملكها إلا الله – جل وعلا – ، وأنه لن يتخلى عن الذين آمنوا معه حيث أن تخليه عنهم فيه ظلم لهم وأنه لن يكون من الظالمين .
وهدده قومه إن لم ينته عن تلك الدعوة ، سوف يعذبونه ويرجمونه بالحجارة ، ولكن نوحًا – عليه الصلاة والسلام – تحداهم ولم يستسلم لكلامهم وتهديدهم ، ورغم أنه ظل يدعوهم لعبادة الله ، وترك الأوثان التي يعبدونها ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا ، إلا أنهم مازالوا على جهلهم ، وتمسكوا به أكثر وطلبوا منه أن يثبت صدقه بأن يأتيهم بالعذاب ، الذي يعدهم به ولكنه قال لهم أن من يأتيهم بالعذاب هو الله تعالى .
دعاء نوح عليه السلام على قومه :
وبعد أن يئس نوح – عليه الصلاة والسلام – من أن يؤمن قومه ، دعا عليهم فقال : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح – 26 : 27 . فاستجاب الله سبحانه وتعالى لدعاء نوح .
وأوحى إليه أن يزرع النخيل وظل قومه يسخرون منه وهو لا يكترث بهم ، وبعد خمسين سنة أوحى إليه أن يصنع سفينة ، وأرسل الله له جبرائيل يعلمه كيف يصنعها ، فكان طولها ألفًا ومائتي ذراع ، وعرضها ثمان مائة ذراع ، وطولها في السماء ثمانين ذراع .
وقال له الله أن ينادِ على من آمن معه من قومه ليعاونوه في صنعها ، حيث قال الله تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَع الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) سورة هود الآية 36 – 37 ، وظل الكافرين من قومه يتعجبون من أمره ، ويسخرون منه كلما مروا عليه ، إذ يصنع سفينة في البر ، ولقد صنعها بدقة عالية ومهارة أيضًا .
كان لنوع – عليه الصلاة والسلام – زوجتان ، إحداهما مسلمة وهي عمورة بنت ضمران وهي من أوحى له الله أن يتزوجها ، وبشره بأنها أول من يؤمن معه ، ورغم أن قومها عذبوها وسجنوها ، إلا أنها أصرت على إيمانها ، وأنجبت له ابنه سام – عليه السلام -، والثانية كافرة لم تؤمن حتى بعد كل ما بينه لها من الآيات .
انطلاق سفينة نوح عليه السلام :
وبينما كانت امرأة نوح تخبز في تنورة نبع منه الماء ، وتفجرت العيون في الأرض ونزل المطر بغزارة ، والتقى ماء الأرض والسماء فارتفعت الماء وسارت السفينة ، وركب مع نوح من كل الحيوانات زوجين اثنين .
ولبَّى نداءه ثمانين فقط من قومه هم من آمنوا معه ، وكان له ابنه كنعان كان خائفًا عليه من الغرق فالبلاء يحيط به من كل جانب إلا أنه أصر على كفره وأخبر نوح – عليه الصلاة والسلام – ، بأنه سيعتصم بالجبل من الماء ، لكن لا عاصم من أمر الله إلا من رحمه الله ، وظل الماء يرتفع ويرتفع حتى وصلت لمكة المكرمة ، وطافت بالبيت الحرام .
وقد غرق كل من في الأرض حتى الجبال ولم يبقَ إلا البيت العتيق ، ويقال أنه تهدم لم يبقى إلا القواعد التي بنى سيدنا إبراهيم عليه السلام وولده اسماعيل علية السلام البيت منها مرة أخرى ، واستمر فيض الماء أربعين يومًا حتى غرق كل من في الأرض جميعًا ، إلا المؤمنين .
وأمر الله السماء بأن تكف عن المطر ، وأمر الأرض أن تبتلع ماءها ، وهدأت العواصف ، وقد أمره الله بأن يهبط من السفينة ومن معه فقد رست السفينة على جبلٍ في تركيا اليوم واسمه الجودي ، قال تعالى : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) سورة هود الآية 44 ، وانتشر نوحٌ ومن معه من المؤمنين في الأرض عمروها وزرعوها مستعينين بالله وما آتاهم من قوة وحيواناتٍ ودواب .