المانيكان ، تلك الدمى جامدة الملامح ، تتخذ أشكالاً وكأنها بشر مثلنا ، تجلس وتسير وتركض ، تقفز وتثب بلا كلل أو ملل ودون أن تبدو أية انفعالات على وجوهها الجامدة ، وقد يوقعك حظك العاثر للعمل في مكان مليء بالدمى ، لا تدري أيها ينظر إليك بنظرة متفحصة ، وأيها ينظر للاشيء من الأساس ، ومعظمنا تلك الدمى تثير في نفسه الرعب ، ولكن ما شهدته نبيلة كان أشد وطأة ، ورعبًا .
نبيلة فتاة تبلغ من العمر واحد وعشرين عامًا ، من أسرة متوسطة الحال ، كانت قد تخرجت قبل بضعة أشهر ، من الجامعة وظلت تجوب الشوارع بحثًا عن عمل ، فهي بالكاد تستطيع أن توفر شيئًا من مصروفها ، الذي لا تحصل عليه سوى ثلاث مرات بالشهر ، بالإضافة إلى كونها عروس وتود المساهمة مع ذويها في كافة متعلقاتها .
بدأت نبيلة في البحث عن العمل ، حتى كلت قدميها وخارت قواها ، حتى وجدت عملاً كبائعة في أحد محال الملابس ، بالطبع كانت وظيفة متواضعة ، ولكن ما باليد حيلة فما يأتي منها ، سوف يسهم في شراء متعلقاتها ، فقبلت نبيلة بالوظيفة وبدأت عملها منذ اليوم التالي للمقابلة التي أجرتها بالمكان .
توجهت نبيلة نحو عملها ، وبدأت في التعرف على العاملين بالمحل ، وأتى المدير يمنحها التعليمات ، وحذرها من الهبوط إلى غرفة المانيكان بالقبو الكبير ، وأشار بيده أنها إن خالفت أوامره ، سوف تلقى ما لا يحمد عقباه ، تفهمت نبيلة الوضع وقد ظنت أنه يقصد تلافي حدوث ، أية مشكلة بانكسار المانيكان أو ما شابه ، فهي الآن بأسعار باهظة ، وسوف يكلفها الأمر إن انكسر أحدهم ، ما يربو على عمل ثلاثة أشهر متواصلة ، وهي لا تستطيع تحمل مثل تلك التكلفة .
سهير زميلة لها في العمل ، ويبدو أنها فتاة مشاغبة بعض الشيء ، دائمًا ما كانت ترفع صوتها أثناء تواجدها ، لدرجة كانت تنزعج معها نبيلة ، فهي فتاة هادئة ولا ترغب أن يظن من حولهم ، بأنها ترفع صوتها بلا مبرر ، وفي أحد أيام اعتذرت سهير عن العمل ، بالهاتف فأجابت نبيلة أنها سوف تتحمل العمل بدلاً منها .
ولكن سهير ضحكت بخبث وقالت لها ، حسنًا إياك أن تداعبي المانيكان وخاصة عند السابعة مساء ، فهم يتحركون ليلاً ولا يحبون الإزعاج ، وأطلقت ضحكة ساخرة في حين ارتعدت فرائس المسكينة نبيلة ، المانيكان يتحركون ليلاً ! يبدو أنها مزحة سخيفة من سهير ، فهي فتاة مشاغبة ولا ترتاح أبدًا ، حتى وهي مريضة طريحة الفراش ، هكذا حدثت نبيلة نفسها ، حتى لا ترتعب فهي لا تغادر العمل قبل التاسعة مساء .
حانت السابعة ونسيت نبيلة ما قالته سهير ، وبدأت تتحرك في المكان كالمعتاد ، وذهبت منذ الرابعة لتتولى أمر العمل بدلاً من زميلتها ، فأخذت تحصي ما تم بيعه من مانيكان ، وبعد ذلك هبطت إلى القبو حتى تحصي العدد مرة أخرى ، ولكن عقب أن هبطت درجات السلم ، حتى أغلق الباب خلفها بقوة ، جعلت قلبها يقفز في حلقها ، وصعدت للأعلى مسرعة للخروج ولكن هيهات ، أغلق الباب ولا يمكن فتحه سوى من الخارج الآن ! أي موقف هذا .
هبطت نبيلة إلى الأسفل ، وأضاءت المصابيح ، فوجدت نفسها بين مئات الدمى ، جامدة الوجوه ، ولكن مع الخوف الشديد شعرت نبيلة أنهم جميعًا يحدقون بها ، وفجأة لمحت حركة ما بعيدة ، فالتفتت خلفها ولكنها لم تجد أحدًا ، مرة أخرى تلمح حركة لتلتفت ولا تجد شيئًا ، بدأت نبيلة تبكي وتصرخ علّها تجد من يخرجها من هذا الجحيم .
ولكن لا حياة لمن تنادي ، وفجأة بدأت المانيكانات تتحرك كلها نحوها ، من كان يجلس نهض واقفًا ، ومن كان يعطيها ظهره ، التفت ينظر إليها ، ارتعبت الفتاة أكثر وأخذت تصرخ ، والدمى تتجه نحوها في محاولة منهم للانقضاض عليها ، فأطلقت صرخة مدوية ثم فقد وعيها .
فتحت نبيلة عينيها ، لتجد نفسها ملقاة أرضًا داخل المحل ، وإلى جوارها مدير المحل وسهير ، وكلاهما ينظران إليها بنظرات مختلفة ، المدير يسألها عما حدث وسهير تضحك بخبث ، وتقول شامتة لابد أن الدمى قد هاجمتها ، فنظر لها المدير بطريقة لائمة ، ثم التفت إلى نبيلة فقالت له ما حدث فأجابها أن سهير معهم في المكان منذ الصباح الباكر .
ولم تغادره وكلاهما كانا إلى جوارها عندما فقدت الوعي ، فنظرت لهما نبيلة باستغراب شديد ، وبدأت تتساءل ، كيف نزلت إلى القبو إذًا ؟ فأجابها المدير القبو مغلق بقفل كبير معلق على الباب ، ولم يفتحه أحد منذ سنوات والدمى يتم وضعها بغرفة مجاورة للغرفة المغلقة ثم تركها ورحل لتهمس سهير بأذنيها في المرة القادمة سأضاعف لك الجرعة ، حتى تتركي المكان للأبد ، ثم أطلقت ضحكة عابثة وانصرفت ، وبدت كأنها تطير لا سائرة ! هل هذا المكان مسكون ؟