في ثلاثينيات القرن الماضي كانت انجلترا على أعتاب الانجرار للفاشية بعد أن قاد السير أوزوالد موزلي اتحاد الفاشيين البريطانيين، والذي ضم 50 ألف عضوًا في حينها، ووصل عدد الجماهير التي كانت تحضر التجمعات القومية التي كان يتحدث بها موزلي بحماس أكثر من 30 ألف متابع.
في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كنت معارضة بريطانيا لألمانيا النازية شبه أسطورية، لكن لم يكن هذا هو الحال في السابق، فقبل أن تعرض صور الجنود المغبرين في إيطاليا وفرنسا وهم يدافعون بشكل حازم عن الوطن، كان موقف بريطانيا المناهض للفاشية شبه حيادي.
ولبعض الوقت ظهرت تجمعات صغيرة من الفاشيين الإنجليز لكنها كانت صريحة في معاداتها بشدة للسامية ، والداعين للأنجلزة ولواحدة من أكثر الفلسفات السياسية وحشية وقمعًا في التاريخ.
وكان الاتحاد البريطاني الفاشي يدين بكل الفضل في شهرته ونجاحه لقائده النبيل المشهور والسياسي والقائد الجذاب السير أوزوالد موزلي، ولولا المقاومة الشديدة التي ظهرت ضد حركة موسلي لأصبحت بريطانيا جزء من الإمبراطورية النازية التي كانت مزدهرة جدًا في ذلك الوقت.
ولد موزلي في عام 1896 ، ونشأ وسط طبقة النخبة الأرستقراطية في بريطانيا وورث لقب سير بصفته ابنًا لعائلة أنجلو أيرلندية ثرية وعريقة ، وقد التحق بمدارس خاصة وقضى الوقت بين الفصول الدراسية في منزل أجداده في ويست ميدلاندز بإنجلترا.
ومع صعود الرأسمالية أصبحت عائلة موزلي في موقف صعب، وتراجع وضعهم كنبلاء مع صعود طبقة لرأسماليين والصناع، ومن ناحية الأخرى بدأت الحركة العمالية المتنامية والتي كانت تنادي بتمكين الطبقة العاملة في بريطانيا تشكل تهديد لكلًا من الطبقات الحاكمة القديمة والجديدة في إنجلترا.
أثرت تلك الحركات في تشكيل مشاعر موزلي الذي كره طبقة الرأسماليين الجدد وفي نفس الوقت كان لا يثق بالعمال.
كان موسلي أحد الضباط الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وخدم كملازم في الجبهة الغربية ثم انتقل إلى سلاح الطيران الملكي، وتسبب له ذلك في الإصابة بعرج دائم، لكن ذلك لم يكن هو التأثير الوحيد الذي تركته الحرب على أوزوالد، فقد أصبح من كبار المعجبين بالقوة العسكرية البريطانية والألمانية.
في عام 1918م كانت الانتخابات والتي أطلق عليها اسم ” انتخابات كاكي” وهي الانتخابات التي تتأثر بشدة بالحروب، حيث يكون المرشحين من الجنود الذين ذهبوا للخنادق، لذلك كان السير الشاب موسلي من أفضل المرشحين في البرلمان كعضو عن حزب المحافظين.
وعلى الرغم من أن موزلي في ذلك الوقت لم يكن لديه أي فكرة عن المعتقدات والممارسات السياسية، إلا أنه كان متحدثًا لقبًا وجذابًا للجماهير، لكنه في عام 1920استقال من حزب المحافظين مع احتفاظه بمقعده في البرلمان، وذلك احتجاجًا على تقسيم أيرلندا، وفي عام 1930م تزايد عدم رضاه عن أداء الحكومة فاستقال من منصبه وخسر مقعده في البرلمان.
لكن كان لدى موسلي طموح سياسي كبير لذلك قرر أن يؤسس حزب بريطاني ينافس الحزب النازي الصاعد في ألمانيا، وقد أسس مزلي حزبه الاستبدادي الجديد في عام 1931م، لكن بعد فشله في الفوز بأي انتخابات قرر أنه يحتاج إلى اتجاه سياسي جديد، لذلك تحول بسرعة للفاشية الصريحة.
وكان أول حزب فاشي بريطاني قد تأسس بالفعل عام 1923 بإنجلترا، ووصل عدد أعضائه إلى 200 ألف، ثم انقلب أعضائه على بعضهم البعض، وكان الحزب مهدد بالاختفاء، وكان بحاجة لمنقذ حتى أتى موزلي في عام 1932 واقترح الاندماج معهم.
وولد الاتحاد البريطاني الجديد للفاشيين BUF في الأول من أكتوبر عام 1932 ، وعقد أول تجمع له في ميدان ترافالغار بلندن بعد أسبوعين فقط من تأسيسة، وكانوا ينادون بمعاداة السامية والعنصرية بكل فخر ، وكانوا قد نسخوا معتقداتهم أساسًا من موسوليني، ومع ذلك ، على عكس الفاشية الإيطالية ، حاول الاتحاد أيضًا جذب الكاثوليك والنساء وهما مجموعتان كانتا تقليديًا تحتقرهما الطبقة الحاكمة البريطانية.
وكانت بداية الاتحاد البريطاني الفاشي مثل بداية الحزب النازي كمزيج من حركة سياسية، ومجموعة شبه عسكرية تسمى القمصان السوداء على غرار قمصان هتلر البنية.
وشهد الاتحاد الفاشي بقيادة موزلي بعض النجاح في أول عامين لظهوره، واترفع عدد اعضاؤه إلى 50 ألف مع اكتساب شعبية كبيرة في مناطق الطبقة العاملة في شمال أنجلترا، وبحلول عام 1934م، توجت حملات موزلي بعقد ثلاثة اجتماعات جماهيرية كبيرة في هايد بارك وقاعة ألبرت ومركز أوليمبيا للمعارض.
وكنتيجة لتلك التجمعات ظهرت معارضة شديدة لأفكار موزلي من الشيوعيين والنقابيين والمؤسسة السياسية البريطانية وغيرهم من المناهضين للفاشية، واتضحت تلك المعارضة لأول مرة في اجتماع مركز أوليمبيا، حيث أدى العنف الشديد الذي ظهر من اتباع موزلي، إلى قيام حملة قمع ضدهم من شرطة العاصمة.
كما أثار ظهور الزي المميز لهم” القمصان السوداء” والذي تم بيعه مقابل جمع تبرعات للحزب ناقوس الخطر بين السياسيين البريطانيين، وفي عام 1936م ازدهر االاتحاد وشهد عدد من الأحداث الكبرى في تاريخه، وكان من أهمها بدء جولة في إيطاليا التي عاش فيها موسوليني وبدأ فيها حزبه الفاشي الإيطالي.
وفي نفس العام قرر موزلي تنظيم مسيرة عبر إيست إند في لندن، لكن خصومه كانوا ينتظرونه هناك، وفي معركة شارع كيبل 4 أكتوبر 1936م، وانضم ما يصل إلى 300 ألف ناشط مناهض للفاشية لسحق مسيرة موزلي العظيمة.
ومع خروج حوالي من 2000 إلى 3000 عضو من الفاشيين إلى الشوارع وتسابق الشرطة لحمايتهم بدأ المناهضون في إلقاء العصي والحجارة والخضروات الفاسدة عليهم، وحتى سيدات البيوت كانوا يقذفن عليهم الخضروات الفاسدة من نوافذ منازلهم إذا مروا من تحتها، وبعد عدة معارك، اختار موزلي بالاتفاق مع رجال الشرطة، وقف مسيرته الكبرى تجنبًا لحدوث مزيد من العنف.
وتوجه المتظاهرون من الفاشيين إلى هايد بارك، بينما ظل المناهضون للفاشية واشتبكوا مع الشرطة، وتم اعتقال 150 متظاهر، وجرح 175 شخص من جميع الأطراف.
وفي ذلك الوقت كانت بريطانيا تعاني بما يكفي لذلك تم حظر القمصان السوداء والمنظمات شبه العسكرية بموجب قانون النظام العام في ديسمبر 1936م، وانشق العديد من أعضاء القمصان السوداء عن الاتحاد، لكن موزلي نفسه ظل معروفًا وقد ألقى خطابًا في عام 1939م وجذب هذا الخطاب 30 ألف متفرج.
لكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد احتلال فرنسا من النازيين انقلب الرأي العام على موزلي، وفي عام 1940م تم سجن موزلي وزوجته بتهمة الخيانة، لكن تم إطلاق سراحهم وهم في حالة إذلال عام 1943م.
عاد موزلي للسياسة بعد الحرب مع حركة الاتحاد والتي كانت تدعو لاتحاد حصري مع الدول الأوروبية فقط، لكن مجموعة من مناهضيه القدامي ومعهم مجموعة من المحاربين القدامى اليهود تصدوا لتلك الحركة، مما دفع موزلي وأعوانه للعمل تحت الأرض.
وقد حاول موزلي إثارة المخاوف والعنصرية ضد المهاجرين الكاريبيين في حملته الانتخابية التالية، لكنه لم يفلح، فغادر بريطانيا إلى أيرلندا وبعد ذلك انتقل لفرنسا، وتوفي هناك عام 1980م عن عمر يناهز 84 عامًا، وحتى يومنا هذا مازالت كتابات موزلي الفاشية المتطرفة موجودة ويتم نشرها بواسطة عدة ناشرين ينتمون لليمين المتطرف.