كان الشيخ الباقلاني أحد كبار فقهاء عصره وكان قاضيًا وفقيهًا عاش في القرن الرابع للهجرة، خلال العصر العباسي وعصر الدولة البويهية التي حكمت معظم مناطق العراق في ذلك العصر، وقد عرف الشيخ الباقلاني بدفاعه عن الإسلام والعقيدة الإسلامية ضد المنحرفين والخوارج وأهل البدع وأصحاب الملل الأخرى.
والاسم الحقيقي للباقلاني هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر القاسم القاضي أبو بكر الباقلاني البصري.
وقد كان للباقلاني مناظرة شهيرة دارت بينه وبين ملك الروم ورهبانه في القسطنطينية، وخلال المناظرة لم يستطيع أحد من رهبان الروم أن يباريه بالرغم من أنهم حاولوا إحراجه بأسئلة اعتقدوا أنه لن يجيب عليها، لكنهم فوجئوا بأن رده كان قويًا ومفحمًا.
وقد سمع الملك عضد الدولة البويهي بقوة علم الباقلاني، فقرر إرساله في مهمة خارجية تخص شئون الدولة الخارجية، وكانت تلك المهمة تتمثل في إبرام معاهدة مع ملك الروم، لكن الملك لم يكن قد اختاره من أجل السياسة فقط، بل لأن ملك الروم كان يحب المناظرات العلمية، وقد علم الملك أن الباقلاني هو أفضل من يقوم بالتفاوض ومناظرة الملك في نفس الوقت.
عندما وصل الباقلاني لبلاط ملك الروم واستعد لمقابلة الملك كانت المفاجئة أن حارس الملك أخبره أنه لا يمكنه الدخول عليه بكامل ملابسه بل عليه أن يخلع نعليه وعمامته، لكن الباقلاني رفض وقال للحارس أنه سيدخل على الملك كما يدخل على ملوك المسلمين، وإلا فعلى الحارس أن يحمل بنفسه الرسالة إلى الملك ثم يعيد إليه الرد ليعود به للملك.
فتعجب الحارس وقال أن هذه أعرافهم وعليه أن يحترمها، فأخبره الباقلاني أن الملوك من شأنهم إذا أتاهم رسول من ملك آخر أن يرفعوا أقدارهم وخاصة إذا كان هذا الرسول هو عالم وقاضي المسلمين.
وافق الملك على مقابلة الباقلاني بكامل ملابسه وقد عرف الملك بفطنته أن الباقلاني لن ينحني عند دخوله عليه كما يفعل رجال الملك، ففكر في خديعته، وطلب من حراسه أن يجعلوا باب الدخول قصير حتى يضطر الباقلاني للانحناء رغمًا عنه عند دخوله.
لكن الباقلاني فطن لخدعة الملك بسرعة، ودخل بظهره على الملك حتى لا يكون منحنيًا وهو داخل، فأدرك الملك أنه يتعامل مع رجلًا ذكي، ووقع في قلبه هيبة منه.
بعد أن استراح الباقلاني من رحلته أرسل الملك إليه وطلب منه أن يقابله لأنه يريد أن يناقشه في بعض الأمور الخاصة بعقيدة المسلمين، فأخبره الباقلاني أنه مستعد لمقابلة الملك في الموعد المحدد، وبالفعل ذهب الباقلاني في الموعد وكان الملك ومعه مجموعة من القساوسة بانتظار الباقلاني.
وقد سأله الملك عما يقول المسلمين في المسيح عليه السلام، فقال له الباقلاني إنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه ورسوله، كمثل آدم عليه السلام خلقه من تراب قال له كن فيكون.
فقال له الملك أتقول أن المسيح عبد الله والقرآن يقول أنه يبريء الأكمه والأبرص ويحي الموتى، فهل هذه أفعال عبد، قال له الباقلي إن القرآن يقول أيضًا أن المسيح عليه السلام قد فعل كل ذلك بإذن الله تعالى، ولو كان كل ذلك من فعل المسيح لكان موسى عليه السلام قد شق البحر وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته، وأيضًا لو كانت معجزة المسيح من ذاته لجاز أن نقول أن جميع معجزات المسلمين بذاته.
فاغتاظ ملك الروم والقساوسة لأنهم لم يستطيعوا أن ينالوا من الباقلاني فقرروا أن يغضبوه بذكر السيدة عائشة زوجة نبينا عليه الصلاة والسلام بسوء.
وفي اليوم التالي الذي التقى فيه القاضي البقلاني بالملك والقساوسة سأله أحدهم عما فعلته السيدة عائشة رضي الله عنها وما رميت به من الإفك، فجاء رد البقلاني عليهم أشد من المرة السابقة، فقد قال لهم أن المنافقون حينما عجزوا عن النيل من النبي عليه الصلاة والسلام أرادوا طعنه من ظهره.
لكن الله تعالى فضحهم وأخزاهم وبرأ السيدة عائشة عليها السلام من فوق سبع سموات، لكن القساوسة أخبروه أنهم لا يؤمنزا بكتاب المسلمين ولو كانوا يؤمنون به لما وقفوا هذا الموقف لمناظرته وأنه يريد دليل على براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، لكن الباقلاني كان أسرع منهم ردًا حيث أخبرهم أن هناك قاعدة يجب أن يأخذ بها القاضي مهما كان دينه أو اعتقاده وهو أن المدعي هو من يأتي بالبينة.
فقال له القس كيف أتي بالبينة والحادثة وقعت على أرضكم وردده بعض العرب منكم، فقال له الباقلاني إن اليهود أيضًا قد تحدثوا عن السيدة مريم العذراء رضي الله عنها واتهموها بارتكاب الفاحشة وهي بريئة وحتى أن بعضهم مازال يردد تلك الادعاءات الكاذبة والبهتان العظيم.
ومع ذلك فإنها لم تكن متزوجة، فهناك امرأتان في التاريخ امرأة لم تتزوج وأنجبت ولد وهي مريم، وامرأة متزوجة ولم تنجب وهي عائشة، فإن تطرق إلى الذهن الفاسد احتمال ريبة فهو إلى الأولى أسرع، وهما للحمد لله منزهتان مبرأتان من رب العالمين، وأنتم اتهمتم المتزوجة، ونحن برأنا من لم تتزوج وأنجبت ولد، فلم يستطيع القساوسة أن يردوا عليه وتم إنهاء المناظرة.
أيضًا فإن وزير الملك قد اتهم البقلاني بأن المسلمين لديهم عنصرية لأن المسلم يتزوج من النصرانية أو اليهودية،وفي نفس الوقت لا يزوج المسلم ابنته من نصراني أو يهودي، فأجابه القاضي البقلاني أن المسلم يؤمن بموسى عليه السلام لذلك يتزوج المسلم من اليهودية ويؤمن بعيسى السلام ولذلك يتزوج النصرانية، أما الروم فمتى ءامنوا بمحمد عليه السلام يمكن أن يتزوجوا من المسلمة، فلم يستطيع الوزير أن يجيبه.
وقد حاول البقلاني عكس المناظرة، وحاول أن يسألهم في بعض الأمور التي يؤمنوا بها، لكن لا أحد منهم استطاع أن يجيب القاضي البقلاني.
وكان الملك في نهاية الزيارة قد دعا الباقلاني لحضور احتفال كبير كان من محافل النصرانية، وقد بالغ الملك في مظاهر الاحتفال، وعندما وصل الباقلاني إلى قصر الملك أخبره أنه سيقابل ضيف عظيم الشأن كبير المقام وهو البطرك الأكبر في المملكة، وربما أيقن الباقلاني أن البطرك قد أتى لمناظرته فقرر أن يبادر هو، وقال للبطرك عند مقابلته، مرحبًا بالبطريك عظيم الشأن كيف حالك، وكيف حال الأهل والأولاد.
فتعجب البابا من حديثه وقال له الملك ماذا تقول ألا تعلم أن الرهبان منزهون عن الزوجة والولد، فرد الباقلاني على الملك هل تستعظم على البطريرك أن يكون له صاحبة أو ولد، ولا تستعظم أن يكون لله عز وجل.
قرر الملك والبطريرك بعد ذلك أن يقضي حاجة الباقلاني، ويعجل بتسريحه من بلاده، وقد أرسل بعض جنوده ليرافقوه حتى يصل مأمنه.