إن التاريخ الإسلامي حافل بالكثير من العلماء الموسوعيين الذين أثروا جميع العلوم، وتفقهوا في أمور الدين وأمور الدنيا وتركوا ورائهم مجموعة كبيرة من العلوم التي أثرت في جميع الحضارات الأخرى، ومن أشهر مؤرخي المسلمين والعرب المؤرخ الشهير جمال الدين أبو المحاسن ابن تغري بردي، والذي ترك ورائه عدد من المؤلفات الشهيرة في التاريخ، وكان من أفضل من أرخوا ودونوا لتاريخ مصر في العصر المملوكي، وحتى أن جزء من مجلده “نزهة الرأي” موجود الآن بمكتبة جامعة أكسفورد.

ابن تغري بردي كان أحد أشهر المؤرخين في تاريخ مصر والعالم الإسلامي، وقد أطلق عليه اسم مؤرخ النيل، كما أنه كان عالم موسوعي وأمير من أمراء دولة المماليك البرجية، وقد تتلمذ على يد تقي الدين المقريزي.

ولد ابن تغري في القاهرة في عام 812هـ أو ربما بعد ذلك، وكان والده الأمير سيف الدين تغري مملوك اشتراه السلطان برقوق من بلاد الروم، ورباه وقربه إليه حتى تولى منصب أتابك العساكر بمصر،ثم كافل بالشام، ثم رئيس لجيش مصر اختاره السلطان برقوق ليكون خليفته بعد وفاته.

لكن الوالد قد توفي بالشام عام 815هـ وكان ابنه مازال في سن صغير، فربته أخته الكبرى التي كانت متزوجة ممن قاضي القضاة الحنفي في ذلك الوقت، لكن زوجها توفي أيضًا في عام 819هـ، فتزوجت من قاضي القضاة الشافعي الشيخ جلال الدين البلقيني.

وقد نشأ ابن تغري في بين قاضي القضاة العالم الفقيه والذي حفظ على يديه القرأن الكريم، ودرس علوم الفقه والحديث والأصول وغيرها من عوم الدين، فقد كان القاضي يشجعه ويحثه دائمًا على طلب العلم، لذلك لم يكتفي ابن تغري بزوج أخته كمعلم وموجه له، لكنه تنقل بين كبار علماء القاهرة والحجاز وحلب ودرس على يديهم جميع العلوم الشرعية وغير الشرعية أيضًا مثل الطب والفلك.

تعلم ابن تغري على يد أعلام العلماء المسلمين مثل أب السعادات بن ظهيرة قاضي مكة المكرمة والشيخ قطب الدين أبي الخير بن عبد القوي وبدر الدين ابن عليف والشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر وغيرهم الكثير، وقد حفظ الكثير من الشعر وسمع الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة من جماعات كثيرة.

اهتم بن تغري كثيرًا بدراسة التاريخ منذ صغره، وبرع في الكتابة والتأريخ، وكان مهتم بوجه خاص بكتب المؤرخ بدر الدين العيني، فدرسها بعناية من أشهرها عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، وقد عاصر أيضًا كبار مؤرخي عصره من أمثال السيوطي وشمس الدين السخاوي وابن حجر العسقلاني والمقريزي والذي يعتبر أعظم مؤرخ في عصره.

لم يكتف ابن تغري بدراسة العلوم، لكنه كان مثل معظم علماء عصره، الذين جمعوا بين العلم والدين والدنيا فتعلم الفروسية وأتقنها ورمي الرمح أيضًا، كما أنه تعلم الموسيقى والشعر.

وذلك أمر بديهي حيث كان والده قائدًا وفارسًا كبيرًا بالرغم من أنه تركه صغيرًا، إلا أن كونه ابن أمير وقائد وشخص مقرب من السلطان ، جعله يحصل على حياة مترفة، فتفرغ للدراسة والتعلم في كل المجالات وقد أتقن كلًا من اللغة الفارسية واللغة التركية أيضًا، وقد ساعده ذلك في الإطلاع على الكثير من أمور الحكم والسياسة في عصره، وأيضًا كان قريبًا للبلاط، لذلك فإنه قد ذكر في مؤلفاته كثير من تفاصيل الحياة السياسية في عصره والتي لم يكن ليعلمها سوى المقربين من الحكم.

وبالرغم من أنه كان قريبًا من السلطان، إلا أنه اشتهر بأنه لم يتملق حاكمًا قط ومع ذلك فإن السلاطين كانوا يحبوا مرافقته، ومن بينهم السلطان الأشرف برسباي والذي كان يحب مرافقته، كما أنه كان كثير الحياء، يعف نفسه عن فعل المنكرات والفواحش، وذلك أمر بديهي أيضًا حيث أنه تربى في بيت يحضه على الفضيلة والحياء من الله، وقد حج ابن تغري عدة مرات.

مؤلفات ابن تغري

من أشهر وأهم مؤلفات ابن تغري كتاب “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” بل هو أهم من الكتب التي تؤرخ لتاريخ مصر، فهو عبارة عن موسوعة مرتبة تاريخيًا منذ فتح عمرو بن العاص لمصر، حتى نهاية عصر السلطان محمد بن جقمق عام 857هـ، ويتميز هذا الكتاب بأنه يصف كثير من الأحداث الدقيقة، ويترجم فيها لكل السلاطين الذي حكموا مصر في تلك الفترة.

وهذا الكتاب قد جذب انتباه المستشرقين الأوروبيون، فقام اثنين من المستشرقين الهولنديين بنشر جزء منه في منتصف القرن التاسع عشر، وقام أيضًا المستشرق الأمريكي وليم بوبر بإخراج باقي الكتاب، لأنه يعتبر الأساس في أي دراسة خاصة بالتاريخ المملوكي.

ومن مؤلفاته الشهيرة أيضًا كتاب” حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور” وقد استكمل في هذا الكتاب مؤلف لأستاذه المقريزي وهو كتاب” السلوك لمعرفة الدول والملوك”، وقد بدأ ابن تغري هذا الكتاب بأحداث سنة 845هـ وهو التاريخ الذي انتهى فيه كتاب المقريزي، وقد كتب ابن تغري في مقدمة هذا الكتاب أن المقريزي كان أستاذًا وعلامة وعمدة المؤرخين في عصره، إلا أنه في نهاية كتابة قد وجد بعض الغلطات وذلك بسبب كبر سن الشيخ المقريزي، فأراد أن يدقق في بعض ما كتبه أستاذه.

كتاب “المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي” هو أول موسوعة تاريخية ألفها بن تغري، والذي ترجم فيه لسيرة جميع الأمراء والسلاطين والعلماء والأعيان والأدباء وغيرهم من المشاهير في عصره، وقد ضم هذا الكتاب أكثر من 3000 ترجمة، وقد ذكر فيه ترجمات لأشخاص لم يذكرها أي مؤرخ غيره ممن عاصروا عهد دولة المماليك البحرية والبرجية، ، كما أنه ذكر أحداث وصفات لم يذكرها أحد غيره شخصيات وردت في تراجم أخرى، وأول شخصية ترجمها ابن تغري في هذا الكتاب هي عز الدين أيبك، وقد اعتبر ابن تغري أن كتابه هذا هو امتداد لمعجم الشيخ خليل بن أيبك الصفدي الذي يطلق عليه “الوافي بالوفيات”.

ومن كتبه التي لم تشتهر كثيرًا تحاريف أبناء العرب في الأسماء التركية، في هذا الكتاب ذكر ابن تغري تصحيح طريقة نطق ومعاني الكلمات التركية التي كان يستخدمها الشعراء والمؤرخين العرب في ذلك الوقت في غير معناها الصحيح أو كانوا ينقونها بطريقة غير صحيحة.

كتاب الوزراء واشتمل هذا الكتاب على ملخصات من ككتبه السابقة فيها سير للوزراء في مصر، وأيضًا من مؤلفاته الانتصار للسان التتار، ونزهة الألباب في اختلاف الأسماء والألقاب وكتاب الأمثال السائرة وكتاب” الدليل الشافي على المنهل الصافي” وهو اختصار لكتابه الأول ” المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي”.

ومن مؤلفاته أيضًا نزهة الرائي، وهو كتاب يتكون من تسعة مجلدات، وأيضًا مجلد” البحر الزاخر في علم الأوائل والأواخر” ، لكن تلك المجلدات كاملة لم تعد موجودة.

وفاة ابن تغري

كان ابن تغري قد بنى لنفسه تربة بالقرب من تربة السلطان الأشرف إينال، وقد بنى فيها مسجدًا، وسبيل للماء لسقي الماء المارة وأربعة فساقي ، في نهاية حياة ابن تغري عاني من مرض القولون، وفي أخر شهر رمضان اشتد عليه المرض وأصيب بإسهال دموي، وظل يعاني من المرض الشديد حتى توفي، يوم 5 من شهر ذي الحجة عام 874هـ وكان عمره حينها 62 عامًا تقريبًا بعد عاش حياة حافلة وثرية.

By Lars