كان جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلّ الله عليه وسلم كريمًا جوادًا ، وكان معروفًا بالزهد والتواضع يحب الفقراء والمساكين ، ويجالسهم ويحب أن يكون في خدمتهم ويرعاهم ويمد يد العون لهم ، ويخرج للمسكين ما في بيته ولا يبخل عليهم بشيء ، وقد سماه النبي أبا المساكين لبره وإحسانه إليهم .
كان جعفر أكبر من أخيه علي بن أبي طالب بعشر سنين ، وحينما بدأ النبي صلّ الله عليه وسلم يدعو قومه إلي الإسلام ، كان جعفر من أوائل الذين أسلموا ، فقد أسلم بعد خمسة وعشرين رجلًا ، وكان جعفر يشبه النبي في شكله وفي خلقه ، لذلك كان قريبًا من قلب النبي .
وكان النبي يحبه ويقول له : أشبهت خلقي وخُلقي ، وحينما بدأت الدعوة الإسلامية تنتشر في مكة ، أحس الكفار بالخوف من انتشار الإسلام ، فأخذوا يعذبون المسلمين ويؤذون النبي وأصحابه ، فقال النبي صلّ الله عليه وسلم لهم : إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا.
ودعاهم إلى الهجرة إلى الحبشة ، فهاجر جعفر مع جماعة من المسلمين إلى الحبشة ، وهاجرت معه زوجته أسماء بنت عميس التي أسلمت في مكة منذ بداية الدعوة ، واشتد غضب الكفار من المسلمين وعلموا بهجرتهم إلى الحبشة ، فأرسلوا إلى النجاشي ملك الحبشة عمرو بن العاص وعمار بن الوليد ، وذلك قبل أن يدخلا الإسلام ومعهم هدايا إلى النجاشي ، لكي يطلبوا منة تسليم المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده.
وحينما دخل عمرو وعمارة علي النجاشي قدما له الهدية ، وسجدا له وقال عمرو له : إن أناسا من أرضنا تركوا ديننا وفروا إلى أرضك ، وقد جئنا لنحذرك منهم فهم خطر عليك وعلي ملكك ، فبعث النجاشي جنوده ليحضروا المسلمين ، فحضر جعفر وأصحابه فلما دخلوا أشار عمرو قائلًا : إنهم لا يسجدون لك أيها الملك ، فقال لهم القسيسون والرهبان اسجدوا للملك ! فقال جعفر نحن لا نسجد إلا لله عزوجل فتعجب النجاشي وقال لماذا ؟!
قال جعفر أيها الملك لقد كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ويظلم القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولًا منا ، وهو الرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام ، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا ، وأمرنا بالمعروف فحاربنا قومنا وعذبونا ، وأخرجونا من ديارنا فلما قهرونا وضيقوا علينا ، خرجنا إلى بلادك واخترنا جوارك ورجونا ألا نظلم عندك .
فقال النجاشي له : هل معك شيء مما نزل عليه ؟ قال جعفر نعم ، ثم قرأ علية الآيات الأولي من سورة مريم ، فبكي النجاشي حتى بلل لحيته ، وبكي القسيسون والرهبان حين سمعوا ما تلي عليهم من القرآن ، وقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، وأنا أشهد أن محمدًا رسول الله ، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه .
ثم التفت النجاشي إلى جعفر وأصحابه وقال لهم : أمكثوا في أرضي ما شئتم فأنتم أمنون علي دينكم وأنفسكم ، فوالله لا أسلمكم إليهم أبدًا ، وأمر لهم بطعام وكسوة ، ثم قال لأتباعه ردوا علي هذين هديتهم! فأعادوا إلى عمرو وعمارة هديتهما فرجعا إلى مكة خائبين ، وأسلم النجاشي وأسلم معه أتباعه ، وعاش جعفر في الحبشة اثني عشر عامًا ورزق بعبد الله ، ومحمد ، وعون.
وفي العام السابع للهجرة ترك جعفر الحبشة إلى المدينة ، وحينما قدم علي النبي كان النبي عائدًا من غزوة خيبر بعد أن فتحها الله عليه ، فلما رآه النبي تلقاه وعانقه وقبله بين عينيه ، وقال والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر .
وحينما انطلق جيش المسلمين إلى غزوة مؤتة سار علي رأس المعركة زيد بن حارثة ، وكان جعفر بن أبي طالب نائبًا له ، وكان متشوقا للجهاد ذو شجاعة منقطعة النظير ، وقاتل زيد حثي استشهد وهو يحمل راية الجهاد ، ورأي جعفر ذلك ووجد أن الراية تسقط من زيد ، فأسرع وأمسك بها واندفع نحو صفوف الأعداء وهو ينشد بصوت عال :
يا حبذا الجنة واقترابها …طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها…علي إن لاقيتها ضرابها
فتحمس المسلمون وشعروا بقرب النصر ، وأخذوا يحصدون رؤوس الأعداء بسيوفهم ، أحس الروم أنهم لن يستطيعوا أن ينتصروا علي المسلمين إلا إذا قتلوا ذلك القائد الشجاع ، فانطلق فرسان الروم نحو جعفر كل منهم يريد قتله ، وكان جعفر يمسك الراية بيده اليمنى ، فضربه أحدهم فقطع يده اليمنى ، فأمسك الراية بيده اليسرى فقطعوها أيضا ، فاحتضن جعفر الراية حتى لا تسقط وتفرق جنوده ، فطعنه أحدهم برمح فنفذ منه.
فتحامل جعفر علي نفسه والرمح يخترق جسده ، والقي بنفسه علي قاتله فاخترقه الرمح فهلك ، واستشهد جعفر ، فألهب استشهاده حماس المسلمين وقاتلوا قتالًا شديدًا وأظهروا فدائية عظيمة ، وبعد أن انتهت المعركة بحث المسلمون عن جعفر بين القتلى ، فوجدوا به بضعة وتسعين جرحًا ما بين ضربة سيف ورمية سهم ، وطعنة رمح وكان عمره يوم استشهد نحو أربعين سنة .
وأوحى الله إلى النبي صلّ الله عليه وسلم بما حدث لجعفر ، فأمر النبي أن ينادي في الناس فأقبل المسلمين ، فصعد النبي إلى المنبر وأخبرهم باستشهاد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ، وقال لهم رأيت جعفر يطير في الجنة مع الملائكة وسماه النبي ذا الجناحين لأن الله عوضه عن يديه بجناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء .